سورة ص - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ص)


        


{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14)}
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} ذكرها تعزية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتسلية له، أي هؤلاء من قومك يا محمد جند من الأحزاب المتقدمين الذين تحزبوا على أنبيائهم، وقد كانوا أقوى من هؤلاء فأهلكوا. وذكر الله تعالى القوم بلفظ التأنيث، واختلف أهل العربية في ذلك على قولين: أحدهما: أنه قد يجوز فيه التذكير والتأنيث.
الثاني- أنه مذكر اللفظ لا يجوز تأنيثه، إلا أن يقع المعنى على العشيرة والقبيلة، فيغلب في اللفظ حكم المعنى المضمر تنبيها عليه، كقول تعالى: {كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ} [المدثر: 55- 54] ولم يقل ذكرها، لأنه لما كان المضمر فيه مذكرا ذكره، وإن كان اللفظ مقتضيا للتأنيث. ووصف فرعون بأنه ذو الأوتاد. وقد اختلف في تأويل ذلك، فقال ابن عباس: المعنى ذو البناء المحكم.
وقال الضحاك: كان كثير البنيان، والبنيان يسمى أوتادا. وعن ابن عباس أيضا وقتادة وعطاء: أنه كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب له عليها. وعن الضحاك أيضا: ذو القوة والبطش.
وقال الكلبي ومقاتل: كان يعذب الناس بالأوتاد، وكان إذا غضب على أحد مده مستلقيا بين أربعة أوتاد في الأرض، ويرسل عليه العقارب والحيات حتى يموت.
وقيل: كان يشبح المعذب بين أربع سوار، كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروب فيه وتد من حديد ويتركه حتى يموت.
وقيل: ذو الأوتاد أي ذو الجنود الكثيرة فسميت الجنود أوتادا، لأنهم يقوون أمره كما يقوي الوتد البيت.
وقال ابن قتيبة: العرب تقول هم في عز ثابت الأوتاد، يريدون دائما شديدا. واصل هذا أن البيت من بيوت الشعر إنما يثبت ويقوم بالأوتاد.
وقال الأسود بن يعفر:
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة *** في ظل ملك ثابت الأوتاد
وواحد الأوتاد وتد بالكسر، وبالفتح لغة.
وقال الأصمعي: يقال وتد واتد كما يقال شغل شاغل. وأنشد:
لاقت على الماء جذيلا واتدا *** ولم يكن يخلفها المواعدا
قال: شبه الرجل بالجذل. {وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ} أي الغيضة. وقد مضى ذكرها في الشعراء. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر {ليكة} بفتح اللام والتاء من غير همز. وهمز الباقون وكسروا التاء. وقد تقدم هذا. {أُولئِكَ الْأَحْزابُ} أي هم الموصوفون بالقوة والكثرة، كقولك فلان هو الرجل. {إِنْ كُلٌّ} بمعنى ما كل. {إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ} أي فنزل بهم العذاب لذلك التكذيب. وأثبت يعقوب الياء في {عذابي} و{عقابي} في الحالين وحذفها الباقون في الحالين. ونظير هذه الآية قوله عز وجل: {وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ} [غافر: 31- 30] فسمى هذه الأمم أحزابا.


{وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16)}
قوله تعالى: {وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً} {ينظر} بمعنى ينتظر، ومنه قوله تعالى: {انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]. {هؤُلاءِ} يعني كفار مكة. {إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً}
أي نفخة القيامة. أي ما ينتظرون بعد ما أصيبوا ببدر إلا صيحة القيامة.
وقيل: ما ينتظر أحياؤهم الآن إلا الصيحة التي هي النفخة في الصور، كما قال تعالى: {ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} [يس: 50- 49] وهذا إخبار عن قرب القيامة والموت.
وقيل: أي ما ينتظر كفار آخر هذه الأمة المتدينين بدين أولئك إلا صيحة واحدة وهي النفخة.
وقال عبد الله بن عمرو: لم تكن صيحة في السماء إلا بغضب من الله عز وجل على أهل الأرض. {ما لَها مِنْ فَواقٍ} أي من ترداد، عن ابن عباس. مجاهد: ما لها رجوع. قتادة: ما لها من مثنوية. السدي: مالها من إفاقة. وقرأ حمزة والكسائي {ما لها من فواق} بضم الفاء. الباقون بالفتح. الجوهري: والفواق والفواق ما بين الحلبتين من الوقت، لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب. يقال: ما أقام عنده إلا فواقا، وفي الحديث: «العيادة قدر فواق الناقة». وقول تعالى: {ما لَها مِنْ فَواقٍ} يقرأ بالفتح والضم أي ما لها من نظرة وراحة وإفاقة. والفيقة بالكسر اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين: صارت الواو ياء لكسر ما قبلها، قال الأعشى يصف بقرة:
حتى إذا فيقة في ضرعها اجتمعت *** وجاءت لترضع شق النفس لو رضعا
والجمع فيق ثم أفواق مثل شبر وأشبار ثم أفاويق. قال ابن همام السلولي:
وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها *** وأفاويق حتى ما يدر لها ثعل
والأفاويق أيضا ما اجتمع في السحاب من ماء، فهو يمطر ساعة بعد ساعة. وأفاقت الناقة إفاقة أي اجتمعت الفيقة في ضرعها، فهي مفيق ومفيقة- عن أبي عمرووالجمع مفاويق.
وقال الفراء وأبو عبيدة وغيرهما: {مِنْ فَواقٍ} بفتح الفاء أي راحة لا يفيقون فيها، كما يفيق المريض والمغشي عليه. و{من فواق} بضم الفاء من انتظار. وقد تقدم أنهما بمعنى وهو ما بين الحلبتين.
قلت: والمعنى المراد أنها ممتدة لا تقطيع فيها.
وروى أبو هريرة قال: حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن في طائفة من أصحابه، الحديث. وفيه، «يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول أنفخ نفخة الفزع أهل السموات واهل الأرض إلا من شاء الله ويأمره فيمدها ويديمها ويطولها يقول الله عز وجل: {ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ} وذكر الحديث»، خرجه علي بن معبد وغيره كما ذكرناه في كتاب التذكرة. قوله تعالى: {وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ} قال مجاهد: عذابنا. وكذا قال قتادة: نصيبنا من العذاب. الحسن: نصيبنا من الجنة لنتنعم به في الدنيا. وقاله سعيد بن جبير. ومعروف في اللغة أن يقال للنصيب قط وللكتاب المكتوب بالجائزة قط. قال الفراء: القط في كلام العرب الحظ والنصيب. ومنه قيل للصك قط.
وقال أبو عبيدة والكسائي: القط الكتاب بالجوائز والجمع القطوط، قال الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته *** وبغبطته يعطي القطوط ويأفق
يعني كتب الجوائز. ويروى: بأمته بدل بغبطته، أي بنعمته وحال الجليلة، ويأفق يصلح. ويقال: في جمع قط أيضا قططة وفي القليل أقط وأقطاط. ذكره النحاس.
وقال السدي: سألوا أن يمثل لهم منازلهم من الجنة ليعلموا حقيقة ما يوعدون به.
وقال إسماعيل بن أبي خالد: المعنى عجل لنا أرزاقنا.
وقيل: معناه عجل لنا ما يكفينا، من قولهم: قطني، أي يكفيني.
وقيل: إنهم قالوا ذلك استعجالا لكتبهم التي يعطونها بأيمانهم ومائلهم حين تلى عليهم بذلك القرآن. وهو قول تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19]. {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق: 10]. واصل القط القط وهو القطع، ومنه قط القلم، فالقط اسم للقطعة من الشيء كالقسم والقس فأطلق على النصيب والكتاب والرزق لقطعه عن غيره، إلا أنه في الكتاب أكثر استعمالا وأقوى حقيقة. قال أمية بن أبي الصلت:
قوم لهم ساحة العراق وما *** ويجبى إلى يه والقط والقلم
{قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ} أي قبل يوم القيامة في الدنيا إن كان الأمر كما يقول محمد. وكل هذا استهزاء منهم.


{اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)}
قوله تعالى: {اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ} أمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصبر لما استهزءوا به. وهذه منسوخة بآية السيف. قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ} لما ذكر من أخبار الكفار وشقاقهم وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم، أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر على أذاهم، وسلاه بكل ما تقدم ذكره. ثم أخذ في ذكر داود وقصص الأنبياء، ليتسلى بصبر من صبر منهم، وليعلم أن له في الآخرة أضعاف ما أعطيه داود وغيره من الأنبياء.
وقيل: المعنى اصبر على قولهم، واذكر لهم أقاصيص الأنبياء، لتكون برهانا على صحة نبوتك. {ذَا الْأَيْدِ} ذا القوة في العبادة. وكان يصوم يوما ويفطر يوما، وذلك أشد الصوم وأفضله، وكان يصلى نصف الليل، وكان لا يفر إذا لاقى العدو، وكان قويا في الدعا الى الله تعالى. وقوله: {عَبْدَنا} إظهارا لشرفه بهذه الإضافة. ويقال: الأيد والاد كما تقول العيب والعاب. قال:
لم يك يناد فأمسى أنا أنادى ***
ومنه رجل أيد أي قوي. وتأيد الشيء تقوى، قال الشاعر:
إذا القوس وترها أيد *** ورمى فأصاب الكلى والذوا
يقول: إذا الله وتر القوس التي في السحاب رمى كلى الإبل وأسمنها بالشحم. يعني من النبات الذي يكون من المطر. {إِنَّهُ أَوَّابٌ} قال الضحاك: أي تواب. وعن غيره: أنه كلما ذكر ذنبه أو خطر على باله أستغفر منه، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة». ويقال آب يؤوب إذا رجع، كما قال:
وكل ذي غيبة يؤوب *** ووغائب الموت لا يؤوب
فكان داود رجاعا إلى طاعة الله ورضاه في كل أمر فهو أهل لأن يقتدى به.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8